+ نشأته وحياته
هكذا كانت الاشواق المتزايدة فى قلب ابو فانا فى الجبل تاركاً خلف ظهره العالم واضعاً أمجاده وشهواته تحت قدميه، وفى الجبل الغربى خارج قرية أبو صير ( بالقرب من قصر هور فى الأشمونين ) وجد مغارة مظلمة لا يدخلها نور النهار ففرح بها وكأنه وجد ضالته المنشودة (المغارة مازالت قائمة الى اليوم وهى تبعد 80 متراً يمين مبانى الدير وهى مختبئة تحت الارض ولم تكشف بعد) ، ولم يكن الماء متوافراً فى المكان ، وكان الرهبان يقطعون مسافات طويلة ليحصلوا على الماء من بعض الآبار المتناثرة ، لكن القديس ابو فانا حينما سكن المغارة وقد وضع رجاءه على الله الذى أحبه من كل قلبه مشتاقاً ان يعبده ويلتصق به فى هذا المكان بعيداً عن العالم ، حدثت أعجوبة عظيمة اذ أنبع الله ينبوع ماء عذب عند مدخل مغارته ، وكم كانت دهشة القديس لهذه المعجزة العظيمة، وامتلأت نفسة بتعزية كثيرة بسبب تلك العناية الالهية وهذه العلامة التى صارت من السماء والتى اطمأنت لها نفسه فى أن الله أراد له أن يقيم فى هذا المكان، فسكن القديس المغارة كل سنوات جهاده.
فى الوحدة المقدسة بالمغارة حالكة الظلام حيث انفرد القديس أبو فانا وكان يبلغ من العمر 22 عاماً ، سلك طريق الجهاد الروحى الذى كان قد تدرب عليه من قبل ، كما تدرج فى صوم الانقطاع حتى صار يصوم فى الشتاء يومين يومين وفى الصيف كان يتناول القليل من الخبز والماء والبلح الجاف عشية كل يوم ، وكان يصوم الاربعين المقدسة طياً بكاملها عدا الثلاثة الايام الاخيرة فكان يأكل فيها شيئاً يسيراً، وذات مرة سأله تلميذه افرآم عن سبب افطاره الثلاثة ايام فأجاب القديس باتضاع عظيم: ان السيد المسيح صام أربعين يوماً ولم يكن فى حاجة الى الصوم ، هؤلاء الذين صاموا على مثال السيد المسيح ، وأكملوا أربعين يوماً كانوا قديسين كاملين ، لكن من أنا المسكين حتى أتساوى مع الذين اختارهم المخلص كموسى وايليا ، وأنا ياابنى انسان ضعيف ، وهكذا كان القديس ابو فانا يحب الاتضاع ويكره الافتخار ويهرب من الكبرياء.
وأحب حياة السهر فكان يقضى الليل كله فى الصلاة واذا ما غلبه نعاس النوم كان يرقد على الارض الخشنة ، ولم يكف القديس عن تزايده فى التعب حتى أنه كان دائم الوقوف على رجليه فى المغارة ، وعندما كان يتناول الطعام كان يتناوله وهو واقف على رجليه حتى تورمت رجلاه من كثرة الوقوف ولصق جلده بعظمه من شدة النسك وصار مثل خشبة محروقة، ومع ذلك لم يخفف من كثرة أتعابه .
وظل مداوماً فى الجهاد والنسك حتى صار جسده محنياً ومقوس الظهر ، ولم يعد يمكنه ان يرقد ممدداً جسده على الارض ، فكان كلما غلبه النعاس ينام وهو يستند متكئاً بصدره على جدار مقام له خصيصاً وبنى لهذا الغرض ، وبالتأكيد كان نوم غير مريح ، فكان يغمض عينيه ويميل برأسه مستنداً على الحائط وظلت هذه هى طريقة نومه ، وهكذا قضى ثمانية عشر سنة حتى يوم نياحته ، وبسبب هذا العيب الجسدى سمى القديس بالنخلة بسبب تقوس ظهره من النسك الشديد الذى كان يمارسه فى حياته .
محبته واتضاعه
تدرب القديس منذ حياته الاولى على محبة الجميع وامتلأ قلبه بهذه المحبة ، فكان يطوف على قلالى ومغاير الرهبان الذين يسكنون الجبل يقدم لهم أعمال المحبة بأى شىء يحتاجونه او يطلبونه حتى أنه يحمل اليهم مايجده فى مغارتهمن خبز أو فاكهة اتى بها اليه احد زائريه ، وكان يهتم بمن يصيبه ضعف او مرض ، وظل القديس طوال حياته لم ينقطع عن خدمة أخوته ، فكان عمله هذا موضع دهشة الجميع بسبب محبته وتواضعه واهتمامه بالرهبان ، وبسبب ما اشتهر به القديس من قلب عطوف ممتلىء بالحب كان يقصد مغارته كل من كان فى احتياج او ضيق وهو فى ثقة من استجابة سؤاله ، وكان القديس لا يرد واحداً منهم بل أنه كان يقوم بنفسه لخدمتهم.
+ تعاليمه ووصاياه
كان من أنظمة الرهبنة فى ذلك الوقت ان يجمع الأب الروحى أولاده الرهبان عشية يوم الأحد ، يعظهم ويوضح لهم محاربات الطريق ويرشدهم الى الجهاد الروحى وخبرات القديسين، وكانوا يقضون الليل كله فى شركة روحية وتختم بصلاة القداس الذى يشتركون فيه ثم يتناولون طعاماً معاً على مائدة واحدة ثم ينصرفون الى قلاليهم . وكان القديس يجلس بين أولاده يرشدهم بتعاليمه وعظاته عن محبة الله وحفظ وصاياه ، وكان يحثهم على الجهاد فى الطريق الروحى، ويدربهم على الوصايا والجهاد ليشتد عودهم وكانوا يسمعون تعاليمه بفرح ويتبارون فى تنفيذ التداريب الروحية فكانوا يمتلئون من كل نعمة ، وكان يأتى اليه الشيوخ الذين يسكنون فى مغارات أخرى بالجبل يسمعون منه كلمات المنفعة ، وذات مرة سأله بعض الشيوخ أن يسمعوا منه كلمات لبنيان نفوسهم فأجابهم القديس : " يا آبائى القديسون ان سيدنا يسوع المسيح تمجد اسمه لم يترك شيئاً من التعليم الا وقد أوضحه لنا فى انجيله المقدس، وقد اوصانا ان نحبه فوق كل شىء اذ قال " ان الذى يحب نفسه يبغضها ويهلكها فى هذا العالم ، اى انه يبغض كل ما يشتهيه جسده او ما تحبه نفسه من محبة الذات ، وان كل من يبغض نفسه فى هذا العالم الزائل فانه يحييها الى حياة أبدية ( يو 12 : 25 ) ، لأن ترك اللذات المظلمة والذهد فى سائر الأشياء هو حياة ، ومن أتعب جسده واماته فى مرضاة الله هو قوت يحى الروح وهو يأخذ نعمة من الله ، اذ أمرنا بالمحبة الروحية لأن فى هذا كمال الناموس والأنبياء ، ولتكن صلواتنا رائحة طيبة كما قال داود النبى فى المزمور " ليكن رفع يدى كقربان المساء ، واجعل لفمى حافظاً وعلى شفتى ستراً حصيناً "( مز 141: 2،3 ) فيكون الانسان فمه دائم التسبيح ، ولا نكون مثل الاشرار الذين يسمعون كلام الله لكنهم لا يحفظوه او يسلكوا فيه " فمضى من عنده الشيوخ منتفعين بكلامه وارشاده وانتعشت روحهم اذ وجد بينهم قديس كهذا يرشدهم ويصلى عنهم.
ديـــــر القديس أبو فانا
يقع دير أبو فانا علي بعد حوالي 30كم جنوب المنيا وحوالي 30كم شمال مدينة ملوي علي نفس خط عرض دير سانت كاترين في سيناء قرب الجانب الشرقي للصحراء الليبية.
يرجح علماء الاثار ان يكون الدير من أوائل أديرة الصعيد بل ويعد من أقدم الأديرة فى العالم ،يقول ماهر منقريوس خبير الآثار- بل ويعد من أقدم الأديرة في العالم وقد صاحب إنشاؤه حركة الرهبنة الأولي أسسه القديس أبو فانا في القرن الرابع الميلادي والذي تتلمذ علي يد الأنبا شنودة رئيس المتوحدين,واستمرت الرهبنة مزدهرة فيه حتي القرن الخامس عشر الميلادي إلي أن بدأت الكثبان الرملية الكثيفة تزحف بمئات الأمتار ناحية الشرق علي الدير...وترتب علي ذلك انخفاض عدد الرهبان به بالتدريج كما يذكر التاريخ إذ لم يستطيعوا مقاومة زحف الرمال حينذاك وبعدها اختفت أغلب معالم الدير عدة قرون إلي أن تمكن القمص متياس جاب الله كاهن الكنيسة بقرية قصر هور القريبة من الدير في أواخر القرن التاسع عشر من إزالة الرمال والكشف عن الدير. وقد صاحب انشاءه حركة الرهبنة الأولى ، وكان يعد أهم تجمع رهبانى فى المنطقة ، وقد كان عامراً بالرهبان الأتقياء والذين تزايد عددهم حتى زاد عن ألف راهب ، وقد أسسه القديس أبو فانا اذ بدأ الرهبنة بالمنطقة فى القرن الرابع للميلاد ، واستمرت الرهبنة مزدهره فيه حتى القرن الخامس عشر الميلادى ، وقد استمرت الرهبنة قائمة فيه حوالى ألف سنة وهى أطول مدة استمرت الرهبنة فيه فى المنطقة ، لذلك لعب هذا الدير دوراً مؤثراً فى حياة الشركة الرهبانية فى هذه المنطقة من مصر العليا ، ومما زاد بالدير أهمية أن عاش فيه رهبان قديسون كثيرون ، وقد تخرج منه القديس الايغومانس ( القمص ) أنبا ابرآم الفانى ( 1321-1396م ) الذى ترهبن بالدير وهو فى سن العشرين وقد بقى بالدير وحده ولم يغادره حتى عام 1365م وهذا التاريخ يعتبر بداية تدهور الدير ، كما تخرج منه اثنان من الآباء البطاركة هما البابا تاودسيوس البطرك (79) وكانت مدة رئاسته على السدة المرقسية بين عامى ( 1295 - 1300م ) ، والبابـــــــا متـــاؤوس الأول البطــريرك (87 ) وهو المعروف باسم متى المسكين وكان قد ترهبن بدير أبو فانا وعمره أربعة عشر عاماً وقد جلس على السدة المرقسية فى الفترة بين عامى ( 1378 - 1408م ).
تاريخ الدير
لاشك أنه فى حياة القديس أبو فانا مؤسس رهبنة المنطقة قد بنيت كنيسة يجتمع فيها الرهبان الذين كان يتزايد عددهم باطراد ، لذلك فهى تعد من أقدم كنائس الأديرة فى العالم ولكن هذه الكنيسة ظلت تغمرها الرمال ، حتى أكتشفت حديثاً واقيم الدير وفيه الكنيسة الحالية فى القرن السادس الميلادى ، وظل عامراً برهبانه حتى أواخر القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الميلادى حيث بدأت أحوال الدير فى التدهور خاصة بعد أحداث 1365م ، فهجره الرهبان ، وبعد ذلك تدهورت أحوال الدير ولم يقم فيه سوى عدد قليل من الرهبان فى القرن الخامس عشر الميلادى، ومنذ ذلك الوقت وكان الذى يهتم بالدير هم كهنة كنائس منطقة غرب ملوي ، وابتدأت الكثبان الرملية الغزيرة تزحف على الدير وقد زاره فى هذه الأثناء الأب سيكار سنة 1716 ، والأب يوليان سنة 1883م ، وذكر أن كاهن هور هو الذى كان يهتم بالدير ويقوم بالصلاة فيه . وابتدأت الرمال تغطى معظم مبانى الدير لمدة طويلة الى ان تمكن القمص متياس جاب الله كاهن كنيسة ابو فانا بقصر هور فى آواخر القرن التاسع عشر الميلادى من ازالة الرمال والكشف عن الدير واعداده للصلاة فيه.
وصف الدير